وقد مرت بنا ايام العمر / بقلم الشاعر الراقي جليس الوعاظ

وقد مرت بنا أيام العمر بطفولتها ومراهقتها وكأنها لمح البصر ، وهاهي الآن مُخترقة بنا حدائق الشباب ، كفلاح لم يبق له الكثير ليأتيَ على أواخر السنابل في حقله بمنجله ، لم يكن لي في أيامها حارسٌ رادع، ولا متجسس واعظ ، لم تكن تقف بي قدمي إلا حيثما قادها عقلي ، ولا تغرب علي شمس يومي إلا وأجد نفسي كما يجد الجمل نفسه في صحراء دون عِقال ، ما يُعيدني من تسلُّق هولٍ إلا غياب سُلَّمٍ إليه، ولا فتحِ مغلقٍ إلا حُسن إحكامه ، أما دون ذالك لا يراودني عنه ضمير إحجامٍ ، ما خانني من ثِقَلِ وزن لَكْمتي ، عوَّضه دهاءٌ في ذهني ، يشق لي طريقا في صمت ، ما يفلح فيه ألف رمحٍ في صخب ، أما اليوم فحامد لربي ، وإني أظن أني قد تغلبت على كل المغريات التي تخدع المرء عن نفسه ، وتنيخه للذة يجدها فيها ، بل أجد نفسي طائعة لي كلما أصرفتها عنها دون استثقال ، نفضت عبائتي من آخر ذرات الغبار التي ألصقتها بي منعرجات تلك المراحل ، حتى أنها لم تعد يستجيب لها ولأمثالها أنفي بالعطس ، إلا تلك النظرات… نظرات لا يزال يخِرُّ لها صريعا أعتى حُراس كياني أمام أضعف سهمٍ من رُماتِها ، حتى عبادة غظ البصر في حضرتها لا تُثمر لي نفعا ، فإن ألقيت بصري أرضا هربا منها أجد صورتها سبقتني لبين الحصى فيها تشكَّلت وكأنها البدر المُهلَّل ، لا مناصا إلا أن أضمِيَ ليلي الطويل معالجا جروح إستلال سهامها مِن بعضي رويدا رويدا ، مرة كاوِيا ، ومرة مُغما عليه . تُلقي عليَّ التحية ظنا أنها تلبي دواعيَ الصواب ، ولا تعلم أنها كمن ختم على طومارٍ موذنا بعدها بحرب ، صوتٌ يصحبه سِربٌ من العصافير ، كل منها حاملٌ نبرة من نبراتها كغصنٍ في منقاره ، يُعششون بها في أذني ويطيب لهم فيها التغريد ، ما تكاسل منهم بالنهار ينشط باليل ، ومع كل ترنيمة ينتفض لها الفؤاد ، وكأنهم ينادونه أن يخترق سِجن عِضام الصَّدر ويلحق بهم طائرا . يشهد الله أني أتفادى الوقوع في عثرات طريقها ما وجدت لذلك سبيلا ، ولو كنت ذا الظفر بدابة تستطيع جر منزلي لأحازين الجِبال ، لطَوَّقته بالحبل ولذت بسَنمها وفعلت…

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصيدة يا اول من سكنت قلبي / بقلم الشاعرة الراقية محمد عناني

قصيدة عشاق الكراسي / بقلم الشاعر الراقي محمد جمال فايد

قصيدة احلام يقظة / بقلم الشاعر الراقي عبد الخالق العطار الموسوي